فصل: (مسألة:صلاة الخوف عند طلب العدو)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[باب صلاة الخوف]

صلاة الخوف ثابتة في وقتنا، ولم تنسخ، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أبو يوسف والمزني: كانت جائزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نسخت في آخر زمانه، وفي حق غيره، فلا يجوز لأحد فعلها بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: لم تنسخ، وإنما هي خاصة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون من بعده.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وهذا عام، ويدل عليه إجماع الصحابة، فإنه روي: (أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير)، وروي: (أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف في بعض غزواته)، وروي: «أن سعيد بن العاص كان أميرًا على الجيش بطبرستان، فأراد أن يصلي صلاة الخوف، فقال:هل فيكم من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا فقدمه، حتى يصلي بهم». ولم ينكر ذلك كله أحد من الصحابة، فدل على أنه إجماع.
ولا يؤثر الخوف في عدد الركعات، بل إن كان في الحضر صلاها أربعًا، وإن كان في السفر صلاها ركعتين، ويستوي الإمام والمأموم في ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، وبه قال ابن عمر وجابر.
وذهب الحسن البصري، وطاوس إلى: أن الإمام يصلي ركعتين، والمأموم يصلي ركعة، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يفرق.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بذات الرقاع، بكل طائفة ركعتين».

.[مسألة:جواز صلاة الخوف في القتال]

ويجوز صلاة الخوف بالقتال الواجب والمباح.
فأما الواجب: فهو قتال الكفار، وقتال أهل العدل لأهل البغي، وقتال من يقصد نفسه، إذا قلنا: إنه واجب.
وأما المباح: فهو كقتاله لمن أراد أخذ ماله، أو مال غيره من المسلمين، أو من أهل الذمة؛ لأن القرآن دل على جواز ذلك في قتال الكفار، وقسنا غيره عليه.
ولا تجوز صلاة الخوف في قتال المعصية، كقتال المسلمين وأهل الذمة لأخذ أموالهم، وقتال أهل البغي لأهل العدل، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك رخصة متعلقة بسبب، فإذا كان السبب معصية لم تتعلق به الرخصة، كالقصر والفطر في سفر المعصية.
فإن هرب من غريمه، وهو معسر فله أن يصلي صلاة الخوف عند الخوف.
قال في "الإبانة" [ق \ 99] وكذلك إذا هرب من القصاص، فله أن يصلي صلاة الخوف؛ لأنه يرجو العفو.
وإن انهزموا عن المشركين، فصلوا صلاة شدة الخوف، فإن كانوا متحرفين لقتال، مثل أن تكون الشمس في وجوههم، أو في هبوط من الأرض، والعدو أعلى منهم، فانهزموا؛ ليطلبوا مكانًا أمكن للقتال، أو كانوا متحيزين إلى فئة، مستنصرين بهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم ليسوا بعصاة.
وإن انهزموا منهم لغير هذين المعنيين، فإن كان العدو أكثر من مثليهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه فرار جائز، وإن كانوا مثلهم أو مثليهم لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم عاصون بالهزيمة منهم.

.[مسألة:صلاة الخوف عند طلب العدو]

قال الشافعي: (وليس لأحد أن يصلي صلاة شدة الخوف في طلب العدو).
قال أصحابنا: طلب العدو على ضربين.
أحدهما: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يتلقاهم العدو هناك، ولا يخالفون منهم، أو يكون المشركون قد انهزموا من المسلمين هزيمة يتحقق أنهم لا يرجعون ولا يجتمعون عن قرب، فإن كان هكذا لم يجز أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأنهم غير خائفين.
الثاني: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يأمنون وقوع العدو عليهم، ويخافون نكايتهم، أو يكونون قد هزموهم هزيمة قد يمكنهم الرجوع، والاجتماع عليهم عن قرب، ولا يؤمن ذلك منهم، فيجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن الخوف هاهنا موجود.

.[مسألة:كيفية صلاة الخوف]

وأما كيفية صلاة الخوف: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه صلى صلاة الخوف في مواضع كثيرة، وبعضها يخالف بعضًا فعلًا)، واختار الشافعي منها صلاته في ثلاثة مواضع: في بطن نخل، وفي ذات الرقاع، وبعسفان، وكل صلاة تخالف الأخرى فعلًا؛ لاختلاف الحال فيها.
فأما صلاة بطن نخل: فيصليها الإمام بوجود ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة.
الثاني: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة.
والثالث: ألا يأمنوا من انكباب العدو عليهم في الصلاة.
فإذا وجدت هذه الشرائط، فرق الإمام الناس فرقتين، فيصلي بفرقة جميع الصلاة، وفرقة في وجه العدو، فإذا سلم الإمام بالأولى، مضت إلى وجه العدو؛ وجاءت الفرقة الثانية، فيصلي بهم جميع الصلاة أيضا مرة ثانية، فتكون للإمام تطوعا، ولهم فريضة.
والدليل عليه: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس ببطن النخل هكذا».

.[مسألة:صلاة ذات الرقاع]

وأما صلاة ذات الرقاع: فتجوز بوجود هذه الشروط الثلاثة.
وصفتها: أن يفرق الإمام الناس فرقتين، فتقف فرقة في وجه العدو، ويحرم الإمام بالصلاة، وتصلي خلفه فرقة، فإن كانت الصلاة ركعتين، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة، فإذا قام إلى الثانية، ثبت الإمام قائما، ونوت الأولى مفارقته، وأتموا الركعة الثانية لأنفسهم، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويحرمون خلف الإمام، وينوون الاقتداء به، فيصلي بهم الركعة الثانية، ويقومون قبل سلامه، ويتمون الركعة الثانية لأنفسهم، وينتظرهم حتى يسلم بهم، وهذا أفضل من أن يصلي بكل فرقة جميع الصلاة؛ ليسوي بين الطائفتين، فأما في الأولى: فقد صلى مع الأولى فرضا، ومع الثانية نفلا؛ ولأن هذا أخف من الأولى، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا في شيء واحد، وهو أنه قال: (إذا صلى الإمام بالفرقة الثانية الركعة التي بقيت عليه، فإنه يتشهد بهم ويسلم، فإذا سلم أمر الطائفة يقضون ما عليهم، ويسلمون لأنفسهم).
وقال أبو حنيفة: (يصلي بالطائفة الأولى ركعة، فإذا قام الإمام إلى الثانية، مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الأولى، فيصلي بهم الإمام ركعة ثانية، ويتشهد بهم، ويسلم الإمام وحده، فإذا فرغ الإمام من السلام، قامت الطائفة، ومضت إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانها، وأتمت صلاتها وسلمت، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية إلى مكانها، وأتمت صلاتها).
واحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102]. فدل على أنهم إذا قاموا من سجود الأولى، مضوا إلى وجه العدو.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذات الرقاع نحو ما ذكروه».
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102].
فأضاف السجود إليهم، وذلك لا يضاف إليهم بانفرادهم، إلا في الركعة الثانية؛ لأنه لو أراد السجود في الأولى، لأضافه إلى الإمام وإليهم، كما قال في الأولى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]، فأضاف القيام إليه وإليهم؛ لما كان مشتركًا بينهم.
وروى صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذات الرقاع، فذكر نحو ما قلناه.
ولأن ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه روى ذلك صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهل بن أبي حثمة، وخبرهم تفرد به ابن عمر.
ولأن فيما ذكروه المشي في الصلاة، فكان ما ذهبنا إليه أولى.
وذات الرقاع: اسم لمكان، واختلفوا: لم سمي بذلك؟ فقيل: لأنه اسم لجبل مختلف البقاع، فمنه: أسود، وأحمر، وأصفر، فلما اختلفت بقاعه سمي: ذات الرقاع.
وقيل: إنها أرض خشنة، مشى فيها ثمانية نفر، قد ذهبت أظافيرهم، وبقيت أقدامهم، فكانوا يرقعون أظافيرهم بالخرق، فسميت بذات الرقاع.

.[فرع: كيفية صلاة الخوف]

إذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، فإن الطائفة الأولى تنوي مفارقته، وتتم الركعة الثانية لأنفسهم، فيفارقونه فعلًا وحكمًا.
ومعنى قولنا: (فعلًا) أي: أنهم ينفردون بفعل الثانية.
ومعنى قولنا: (حكمًا) أي أن الإمام إذا سها بعد أن فارقوه، لم يلحقهم سهوه، وإن سهوا بعد مفارقته، لم يتحمل عنهم الإمام؛ لأنهم غير مؤتمين به، فلم يتعلق حكمهم بحكمه.
فإن جلس الإمام في الثانية ساهيًا، أو عجز عن القيام فجلس، فإنهم ينوون مفارقته قبل الانتصاب؛ لأن هذا موضع قيامهم، وكذلك إذا عمد الإمام إلى الجلوس، نووا أيضًا مفارقته، وقاموا لما ذكرناه.
فإن أطال الإمام الجلوس مع العلم بطلت صلاته، ولا تبطل صلاة الطائفة الأولى؛ لأن صلاته تبطل بعد أن فارقوه.
وأما الطائفة الثانية: فإن جاءوا، وأحرموا خلفه، فإن كانوا عالمين ببطلان صلاته بطلت صلاتهم، وإن لم يعملوا لم تبطل صلاتهم، كما نقول فيمن صلى خلف محدث.
وإذا قام الإمام إلى الثانية، وانتظر الثانية، فهل يقرأ في حال انتظاره؟
قال الشافعي في موضع: (يقرأ، ويطيل القراءة، فإذا جاءت الثانية قرأ بعد مجيئها بقدر فاتحة الكتاب، وأقصر سورة).
وقال في موضع: (لا يقرأ، وإنما يسبح).
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يقرأ؛ ليساوي بين الطائفتين في القراءة.
فعلى هذا: يسبح، ويذكر الله تعالى بما شاء.
والثاني: يقرأ، وهو الصحيح؛ لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر الله، والقيام لم يشرع له إلا القراءة.
فعلى هذا: يقرأ بعد مجيء الثانية بقدر الفاتحة، وأقصر سورة؛ لتدرك ذلك معه الثانية.
ومنهم من قال: إن كان قد نوى أن يطيل القراءة قرأ، وإن نوى ألا يطيل القراءة لم يقرأ.
وحكى في "الإبانة" [ق \ 97] طريقًا آخر: أنه يقرأ، قولًا واحدًا.
وإذا جاءت الطائفة الثانية أحرمت خلف الإمام، فيقرءون معه، ويركعون، ويسجدون، فإن خفف الإمام القراءة، فأدركته الثانية راكعًا، فقد أدركوا معه ركعة.
ومتى يفارقونه؟
قال الشافعي في موضع: (يفارقونه بعد الرفع من السجود في الثانية).
وقال في موضع ما يدل على أنهم: (يفارقونه بعد التشهد).
فمن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يفارقونه عقيب السجود؛ لأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، وهذا أخف.
والثاني: يفارقونه بعد التشهد، كالمسبوق.
ومن أصحابنا من قال: يفارقونه عقيب السجود قولًا واحدًا، وقول الشافعي: (بعد التشهد) أراد: إذا صلوا في الحضر، فإنه يصلي بالأولى ركعتين ويتشهد، وبالثانية ركعتين.
قال الشيخ أبو حامد: وقد أصاب هذا القائل في هذا التأويل.
فإذا قلنا: إنهم يفارقونه عقيب السجود، فهل يتشهد الإمام في حال انتظاره؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان كالقراءة.
ومنهم من قال: يتشهد قولًا واحدًا؛ لأنه لم يتشهد مع الأولى، فلا مفاضلة هاهنا.
فعلى هذا: يطيل التشهد بعد مجيء الثانية بقدر ما تتشهد الطائفة.
إذا ثبت هذا: فإن الطائفة الثانية تقوم إلى تمام ما عليها، ولا تنوي مفارقة الإمام؛ لأنها تفارقه فعلًا، فتنفرد بفعل الثانية، ولا تفارقه حكمًا؛ فإن سها الإمام بعد أن فارقته، أو قبل أن تأتي إليه لزمهم سهوه، وإن سهوا في حال قضاء ما عليهم فالمذهب: أنه يتحمل عنهم؛ لأنهم في حكم متابعة الإمام.
وحكي عن ابن خيران، وأبي العباس: أنهما قالا: لا يتحمل عنهم، ولا يلحقهم سهوه، كالطائفة الأولى، وكذلك الوجهان في المزحوم عن السجود في الجمعة، إذا أمرناه بالسجود فسها، وكذا من وصل صلاته بصلاة إمام أحرم بعده، وجوزنا له الوصل، وكان قد سها قبل الوصل، فهل يتحمل عنه؟ على هذين الوجهين.

.[فرع: كيفية قراءة الإمام]

ويستحب للإمام أن يخفف القراءة في الركعة الأولى؛ لأنها حالة حرب ونقل سلاح، وكذلك يستحب للطائفة الأولى والثانية إذا فارقتا الإمام لتمام ما عليهما، أن يخففا القراءة؛ لما ذكرناه.
وأما الإمام: فيستحب له أن يطول القراءة في الثانية لتدركه الثانية؛ لأنه موضع حاجة.

.[فرع: تعريف الطائفة]

قال الشافعي: (والطائفة: ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة، وأن تحرسه أقل من طائفة)، وهذا صحيح، ويستحب أن تكون الطائفة التي تصلي مع الإمام ثلاثة أو أكثر، وكذلك الطائفة التي تحرسه.
فإن كانوا خمسة، واحتاجوا إلى أن يصلوا صلاة الخوف، صلى الإمام بثلاثة ركعتين، ومضوا إلى وجه العدو، وصلى الآخران أحدهما بالآخر ركعتين.
فإن كان أقل من يقوم بالعدو أربعة صلى واحد واحد.
واعترض ابن داود على الشافعي في هذا، وقال: الطائفة تقع على الواحد أيضًا، وقد احتج الشافعي على قبول خبر الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122].
والطائفة: اسم للواحد.
والجواب: أن مراد الشافعي أن الطائفة المذكورة في هذه الآية ثلاثة فما زاد؛ لأن الله تعالى قال فيه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]. ولهذا خطاب جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

.[مسألة:سهو الإمام]

قد ذكرنا أن الإمام إذا سها في الأولى، لزم الأولى سهوه.
فعلى هذا: إذا فارقوه، قال الشافعي: (أشار إليهم بما يفهمونه، أنه قد سها، فإذا بلغوا آخر صلاتهم سجدوا للسهو، ثم يسلموا).
قال أبو إسحاق المروزي: إنما يشير إليهم، إذا كان سهوه يخفى مثله على المأمومين، فإن كان سهوه جليًّا، لا يخفى عليهم، فإنه لا يشير إليهم.
قال الشيخ أبو حامد: وأظن الشافعي أشار إلى هذا في " الإملاء ".
ومن أصحابنا من قال: يشير إليهم، سواء كان سهوه خفيًّا، أو جليًّا؛ لأنه وإن كان سهوه جليًّا، فقد يجهل المأمومون أن عليهم سجود السهو بعد مفارقتهم، فيعرفهم ذلك؛ ليعلموا ذلك، ويسجدوا.
فإن قامت الأولى إلى تمام ما عليها، فسهوا أيضًا، فهل يجزئهم سجدتان، أو يحتاجون إلى أربع؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا: تكفيهم سجدتان، فعم يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها في (السهو).

.[فرع: متابعة الإمام]

إذا قلنا: إن الثانية تفارق الإمام عقيب السجود في الثانية، وكان قد سها الإمام، فإنهم يسجدون مع الإمام في آخر صلاتهم.
وإن قلنا: إنهم يتشهدون معه، فإن الإمام يسجد لسهوه، ويسجدون معه، ثم يقومون لقضاء ما عليهم.
وهل يعيدون سجود السهو في آخر صلاتهم؟ فيه قولان، كالمسبوق بركعة.
وإن أدركته قاعدًا، لكنه قد سبقهم بالتشهد، وسجد للسهو قبل تشهدهم، فهل يتابعونه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يسجدون معه؛ لأنهم متبعون له.
والثاني: لا يسجدون، حتى يقضوا ما عليهم، وهو التشهد.
فإن قلنا: يسجدون معه، فهل يعيدونه بعد تشهدهم؟ على القولين الأولين.

.[مسألة:كيفية صلاة المغرب]

وإن كانت الصلاة مغربًا، فلا بد من تفضيل إحدى الطائفتين على الأخرى؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما في قسمة الصلاة، فيجوز أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ويجوز أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لما روي:
(أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى ليلة الهرير هكذا)؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل الثانية على الأولى بذات الرقاع؛ لأنه انتظرهم مرتين، وانتظر الأولى مرة، فدل على أن الثانية أولى بالتفضيل.
والثاني: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وهو الأصح؛ لأنه أخف؛ وذلك أن كل طائفة هاهنا تتشهد تشهدين، وفي الأولى تتشهد الثانية ثلاث تشهدات.
فإذا قلنا بهذا: جاز للإمام أن ينتظر الثانية قاعدًا في الثانية، وقائمًا في الثالثة، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن ينتظرهم قاعدًا في الثانية؛ لتدرك معه الثانية الركعة الثالثة من أولها.
والثاني: أن الأفضل أن ينتظرهم قائمًا في الثالثة، وهو الأصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الثانية قائمًا.
ولأن القيام في الصلاة أفضل من القعود، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم»، وأصل هذا الخبر: إنما هو في النفل عند القدرة على القيام، فأما في الفرض: فإن كان قادرًا على القيام، فصلى قاعدًا.. لم تصح صلاته، وإن كان عاجزًا عن القيام، فصلى الفرض أو النفل قاعدًا.. فثوابه كثواب القائم، أو أكثر إن شاء الله.

.[مسألة:صلاة الخوف حضرًا]

وإن كانت الصلاة في الحضر، واحتاج الإمام إلى صلاة الخوف، بأن ينزل العدو على باب البلد، فيخرج الناس ليقاتلوهم.. جاز للإمام أن يصلي بهم صلاة الخوف.
وقال مالك: (لا يجوز).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية.
فبين كيفيتها، ولم يفرق بين: سفر، ولا حضر.
فإن كانت الصلاة رباعية، أو كانت في السفر، وأراد الإمام إتمامها.. فإنه يفرق الناس طائفتين، ويصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعتين، وهل الأفضل أن ينتظر الثانية قاعدًا في التشهد الأول، أو قائمًا في الثالثة؟ فيه قولان، كما ذكرنا في المغرب، ويتشهد -هاهنا- مع الطائفة الأولى والثانية، قولًا واحدًا؛ لأنه موضع تشهدهم.
وإن فرقهم أربع فرق، فصلى بكل طائفة ركعة.. ففي صلاة الإمام قولان:
أحدهما: أنها باطلة، وهو اختيار المزني، ووجهه: أن الله تعالى أمر بالصلاة مجملًا، وكيفيتها مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتظرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف إلا انتظارين، فعلم أن هذا بيان لما أمر الله بإقامته مجملًا، فبطلت بالزيادة، كما لو صلاها خمسًا.
والثاني: لا تبطل، وهو الأصح؛ لأن الانتظار الثاني والثالث والرابع بالقراءة والذكر، وذلك لا يبطل الصلاة.
ولأن الحاجة قد تدعو إليه، بأن يكون المسلمون أربعمائة، والعدو ستمائة، فيصلي الإمام بمائة مائة، ويقف بإزاء العدو ثلاثمائة؛ فإذا قلنا بهذا: صحت صلاة الطائفة الرابعة؛ لأنهم لم يفارقوا الإمام حكمًا.
وأما صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة: فإنهم فارقوه بغير عذر؛ لأنهم فارقوه قبل وقت المفارقة، وذلك أن الطائفة الأولى، إنما فارقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نصف صلاته، ونصف صلاتهم، وكل طائفة من هذه الثلاث فارقته قبل ذلك، فيكون في صلاتهم القولان، فيمن فارق الإمام بغير عذر.
وإن قلنا: إن صلاة الإمام باطلة.. فمتى تبطل؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس -: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ لأنه هو الانتظار الزائد على ما وردت فيه الرخصة.
فعلى هذا: تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، وأما الرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل، كمن صلى خلف محدث.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تبطل بالانتظار الثاني)؛ لأن الزيادة حصلت فيه.
وفي أي موضع تبطل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنها تبطل بمضي الطائفة الثانية؛ لأن هذا وقت الزيادة، وذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفة الأولى بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، وهذا قد فعل مثل هذا في الانتظار الأول، وانتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطائفة الثانية بقدر ما أتمت صلاتها لا غير، وهذا قد انتظر الثانية بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، فبنفس مضيها وقعت الزيادة.. فتبطل صلاته حينئذ.
والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاة الإمام تبطل عندما يمضي من الانتظار الثاني قدر ركعة، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفتين جميعًا بقدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر ما صلت ركعة، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ركعة، وهذا قد انتظر أكثر من قدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر ما صلت ثلاث ركعات، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ثلاث ركعات، فيجب أن تبطل صلاته إذا مضى من الثانية قدر ركعة؛ ليكون انتظاره بقدر الصلاة التي هو فيها، وهي أربع ركعات مع المضي والمجيء.
إلا أن ما قاله أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد لا يفيد في صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنهم يفارقونه قبل بطلان صلاته، وإنما يفيد في وقت بطلان صلاة الإمام.
وعلى قولها معًا: ينظر في الثالثة، والرابعة، فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل صلاتهم، كمن صلى خلف محدث، وإن علم البعض دون البعض.. بطلت صلاة من علم بطلان صلاة الإمام، دون صلاة من لم يعلم.
وبأي شيء يعتبر علمهم؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يعتبر أن يكونوا علما تفريق الإمام للطوائف، فإن علموا ذلك.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا أن التفريق مبطل لصلاتهم، كما إذا علموا إن الإمام جنب.
والثاني: يعتبر علمهم، بأن هذا التفريق مبطل لصلاته، وإن لم يعلموا ذلك.. لم تبطل صلاتهم، ويفارق الجنابة؛ لأن كل مسلم يعلم أن الجنب لا تصح صلاته، بخلاف مسألتنا، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة.
والثاني: أن صلاة الإمام والطائفة الرابعة صحيحة، وصلاة الأولى والثانية والثالثة باطلة.
والثالث: أن صلاة الإمام باطلة، وصلاة الأولى والثانية صحيحة، وأما الثالثة والرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل.
ويجيء فيه قول أبي العباس: تصح صلاة الطائفة الثالثة أيضًا، فيكون فيها أربعة أقوال.